سورة البقرة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


الولدان: الأب والأمّ، وكل منهما يطلق عليه والد، وظاهر الإطلاق الحقيقة. قال:
وذي ولد لم يلده أبوان ***
ويقال للأم: والد ووالدة، وقيل: الوالد للأب وحده، وثنياً تغليباً للمذكر. الإحسان: النفع بكل حسن. ذو: بمعنى صاحب، وهو من الأسماء الستة التي ترفع، وفيها الواو، وتنصب وفيها الألف، وتجرّ وفيها الياء. وأصلها عند سيبويه، ذوي، ووزنها عنده: فعل، وعند الخليل: ذوّة، من باب خوّة، وقوّة، ووزنها عنده فعل، وهو لازم الإضافة، وتنقاس إضافته إلى اسم جنس، وفي إضافته إلى مضمر خلاف، وقد يضاف إلى العلم وجوباً، إذا اقترنا وضعاً، كقولهم: ذو جدن، وذو يزن، وذو رعين، وذو الكلاع، وإن لم يقترنا وضعاً، فقد يجوز، كقولهم: في عمرو، وقطري: ذو عمرو، وذو قطري، ويعنون به صاحب هذا الإسم. وإضافته إلى العلم في وجهته مسموع، وكذلك: أنا ذوبكة، واللهم صلّ على محمد وعلى ذويه. ومما أضيف إلى العلم، وأريد به معنى: ذي مال، ومما أضيف إلى ضمير العلم، وأضيف أيضاً إلى ضمير المخاطب، قال الشاعر:
وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما *** رجونا قدماً من ذويك الأفاضل
وقد أتت ذو في لغة طيّ موصولة، ولها أحكام في النحو. القربى: مصدر كالرجعى، والألف فيه للتأنيث، وهي قرابة الرحم والصلب، قال طرفة:
وقربت بالقربى وجدك أنه *** متى يك أمرٌ للنكيثة أشهد
وقال أيضاً:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة *** على الحر من وقع الحسام المهند
اليتامى: فعالى، وهو جمع لا ينصرف، لأن الألف فيه للتأنيث، ومفرده: يتيم، كنديم، وهو جمع على غير قياس، وكذا جمعه على أيتام. وقال الأصمعي: اليتم في بني آدم من قبل الأب، وفي غيرهم من قبل الأم. وحكى الماوردي: إن اليتم في بني آدم يقال: من فقد الأم، والأوّل هو المعروف، وأصله الانفراد. فمعنى صبي يتيم: أي منفرد عن أبيه، وسميت الدرّة التي لا مثيل لها: يتيمة لانفرادها، قاله ثعلب. وقيل: أصل اليتم: الغفلة، وسمي الصبي يتيماً، لأنه يتغافل عن بره. وقيل: أصل اليتم: الإبطاء، ومنه أخذ اليتيم، لأن البر يبطئ عنه، قاله أبو عمرو. المساكين: جمع مسكين، وهو مشتق من السكون، فالميم زائدة، كمحضير من الحضر. وقد روي: تمسكن فلان، والأصح في اللغة تسكن، أي صار مسكيناً، وهو مرادف للفقير، وهو الذي لا شيء له. وقيل: هو الذي له أدنى شيء. الحسن والحسن، قيل: هما لغتان: كالبخل والبخل. والحسن: مصدر حسن، كالقبح مصدر قبح، مقابل حسن. القليل: اسم فاعل من قلّ، كما أن كثيراً مقابله اسم فاعل من كثر. يقال: قل يقل قلة وقلا وقلاً، الإعراض: التولي، وقيل: التولي بالجسم، والإعراض بالقلب.
والعرض: الناحية، فيمكن أن يكون قولك: أعرض زيد عن عمرو، أي صار في ناحية منه، فتكون الهمزة فيه للصيرورة. الدم: معروف، وهو محذوف اللام، وهي ياء، لقوله:
جرى الدميان بالخير اليقين ***
أو: واو، لقولهم: دموان، ووزنه فعل. وقيل: فعل، وقد سمع مقصوراً، قال:
غفلت ثم أتت تطلبه *** فإذا هي بعظام ودما
وقال:
ولكن على أعقابنا يقطر الدما ***
في رواية من رواه كذلك، وقد سمع مشدّد الميم، قال الشاعر:
أهان دمّك فرغاً بعد عزته *** يا عمرو نعيك إصراراً على الحسد
الديار: جمع دار، وهو قياس في فعل الاسم، إذا لم يكن مضاعفاً، ولا معتل لام نحو: طلل، وفنى. والياء في هذا الجمع منقلبة عن واو، إذ أصله دوار، وهو قياس، أعني هذا الإبدال إذا كان جمعاً لواحد معتل العين، كثوب وحوض ودار، بشرط أن يكون فعالاً صحيح اللام. فإن كان معتله، لم يبدل نحو: واو، قالوا: في جمع طويل: طوال وطيال. أقرّ بالشيء: اعترف به. تظاهرون: تتعاونون، كأنّ المتظاهرين يسند كل واحد منهم ظهره إلى صاحبه، والظهر: المعين. الإثم: الذنب، جمعه آثام. الأسرى: جمع أسير، وفعلى مقيس في فعيل، بمعنى: ممات، أو موجع، كقتيل وجريح. وأما الأسارى فقيل: جمع أسير، وسمع الأسارى بفتح الهمزة، وليست بالعالية. وقيل: أسارى جمع أسرى، فيكون جمع الجمع، قاله المفضل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى: من في اليد، والأسارى: من في الوثاق، والأسير: هو المأخوذ على سبيل القهر والغلبة. الفداء: يكسر أوله فيمد، كما قال النابغة:
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم *** وما أثمروا من مال ومن ولد
ويقصر، قال:
فدا لك من رب طريفي وتالدي *** وإذا فتح أوّله قصر
يقال: قم فدا لك أبي، قاله الجوهري. ومعنى فدى فلان فلاناً: أي أعطى عوضه. المحرّم: اسم مفعول من حرم، وهو راجع إلى معنى المنع. تقول: حرمه يحرمه، إذا منعه. الجزاء: المقابلة، ويطلق في الخير والشر. الخزي: الهوان. قال الجوهري: خزي، بالكسر، يخزى خزياً. وقال ابن السكيت: معنى خزي: وقع في بلية، وأخزاه الله أيضاً، وخزى الرجل في نفسه يخزى خزاية، إذا استحيا، وهو خزيان، وقوم خزايا، أو امرأة خزيا. الدنيا: تأنيث الأدنى، ويرجع إلى الدنو، ويرجع إلى الدنو، بمعنى القرب. والألف فيه للتأنيث، ولا تحذف منها الألف واللام إلا في شعر، نحو قوله:
في سعي دنيا طالما قد مدّت ***
والدنيا تارة تستعمل صفة، وتارة تستعمل استعمال الأسماء، فإذا كانت صفة، فالياء مبدلة من واو، إذ هي مشتقة من الدنو، وذلك نحو: العليا. ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء} فأما القصوى والحلوى فشاذ. وإذا استعملت استعمال الأسماء، فكذلك. وقال أبو بكر بن السرّاج: في (المقصور والممدود) له الدنيا مؤنثة مقصورة، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو، فيقولون: دنوى، مثل: شروى، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو، ويفتحون أولها ويقلبون الواو ياء، لأنهم يستثقلون الضمة والواو.
{وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله} الآية، هذه الآية مناسبة للآيات الواردة قبلها في ذكر توبيخ بني إسرائيل وتقريعهم، وتبيين ما أخذ عليهم من ميثاق العبادة لله، وإفراده تعالى بالعبادة، وما أمرهم به من مكارم الأخلاق، من صلة الأرحام والإحسان إلى المساكين، والمواظبة على ركني الإسلام البدني والمالي: ثم ذكر توليهم عن ذلك، ونقضهم لذلك الميثاق، على عادتهم السابقة وطريقتهم المألوفة لهم. وإذ: معطوف على الظروف السابقة قبل هذا. والميثاق: هو الذي أخذه تعالى عليهم، وهم في صلب آبائهم كالذرّ، قاله: مكي، وضعف بأن الخطاب قد خصص ببني إسرائيل، وميثاق الآية فيهم، أو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم، قاله ابن عطية. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم في التوراة، بأن يعبدوه، إلى آخر الآيات. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: لا يعبدون، بالياء. وقرأ الباقون: بالتاء من فوق. وقرأ أبيّ وابن مسعود: لا يعبدوا، على النهي. فأما لا يعبدون فذكروا في إعرابه وجوهاً.
أحدها: أنه جملة منفية في موضع نصب على الحال من بني إسرائيل، أي غير عابدين إلا الله أي موحدين الله ومفرديه بالعبادة، وهو حال من المضاف إليه، وهو لا يجوز على الصحيح. لا يقال إن المضاف إليه يمكن أن يكون معمولاً في المعنى لميثاق، إذ يحتمل أن يكون مصدراً، أو حكمه حكم المصدر. وإذا كان كذلك، جاز أن يكون المجرور بعده فاعلاً في المعنى، أو مفعولاً لأن الذي يقدر فيه العمل هو ما انحل إلى حرف مصدري والفعل، وهنا ليس المعنى على أن ينحل، لذلك فلا يجوز الحكم على موضعه برفع ولا نصب، لأنك لو قدرت أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح، بل لو فرضنا كونه مصدراً حقيقة: لم يجز فيه ذلك. ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد، لم ينحل لحرف مصدري والفعل: لا يقال: أخذت أن يعلم زيد. فإذا لم يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ولا كان من ضربا زيداً، لم يعمل على خلاف في هذا الأخير، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه هذا. باب علم ما الكلم من العربية: أن يتقدر المصدّر بحرف مصدري والفعل، وردّ ذلك على من أجازه. وممن أجازه أن تكون الجملة حالاً بالمبرد وقطرب، قالوا: ويجوز أن يكون حالاً مقارنة، وحالاً مقدرة. الوجه الثاني: أن تكون الجملة جواباً لقسم محذوف دل عليه قوله: {أخذنا ميثاق بني إسرائيل}، أي استحلفناهم والله لا يعبدون، ونسب هذا الوجه إلى سيبويه، وأجازه الكسائي والفراء والمبرد.
الوجه الثالث: أن تكون أن محذوفة، وتكون أن وما بعدها محمولاً على إضمار حرف جر، التقدير: بأن لا تعبدوا إلا الله فحذف حرف الجر، إذ حذفه مع أن، وأن جائز مطرد، إذ لم يلبس، ثم حذف بعد ذلك، أن، فارتفع الفعل، فصار لا تعبدون، قاله الأخفش، ونظيره من نثر العرب: مره بحفرها، ومن نظمها قوله:
ألا أيهذا الزّاجري احضر الوغى ***
أصله: مره بأن يحفرها. وعن: أن أحضر الوغى، فجرى فيه من العمل ما ذكرناه. وهذا النوع من إضمار أن في مثل هذا مختلف فيه، فمن النحويين من منعه، وعلى ذلك متأخرو وأصحابنا. وذهب جماعة من النحويين إلى أنه يجوز حذفها في مثل هذا الموضع. ثم اختلفوا فقيل: يجب رفع الفعل إذ ذاك، وهذا مذهب أبي الحسن. ومنهم من قال بنفي العمل، وهو مذهب المبرد والكوفيين. والصحيح: قصر ما ورد من ذلك على السماع، وما كان هكذا فلا ينبغي أن تخرج الآية عليه، لأن فيه حذف حرف مصدري، وإبقاء صلته في غير المواضع المنقاس ذلك فيها. الوجه الرابع: أن يكون التقدير: أن لا تعبدوا، فحذف أن وارتفع الفعل، ويكون ذلك في موضع نصب على البدل من قوله: {ميثاق بني إسرائيل}. وفي هذا الوجه ما في الذي قبله من أن الصحيح عدم اقتياس ذلك، أعني حذف أن ورفع الفعل ونصبه. الوجه الخامس: أن تكون محكية بحال محذوفة، أي قائلين لا تعبدون إلا الله، ويكون إذ ذاك لفظه لفظ الخبر، ومعناه النهي، أي قائلين لهم لا تعبدوا إلا الله، قاله الفراء، ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود، والعطف عليه قوله: {وقولوا للناس حسناً}.
الوجه السادس: أن يكون المحذوف القول، أي وقلنا لهم: {لا تعبدوا إلا الله}، وهو نفي في معنى النهي أيضاً. قال الزمخشري: كما يقول تذهب إلى فلان، تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كان سورع إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه. انتهى كلامه، وهو حسن.
الوجه السابع: أن يكون التقدير أن لا تعبدون، وتكون أن مفسرة لمضمون الجملة، لأن في قوله: {أخذنا ميثاق بين إسرائيل} معنى القول، فحذف أن المفسرة وأبقى المفسر. وفي جواز حذف أن المفسرة نظر.
الوجه الثامن: أن تكون الجملة تفسيرية، فلا موضع لها من الإعراب، وذلك أنه لما ذكر أن


قفوت الأثر: اتبعته، والأصل أن يجيء الإنسان تابعاً لقفا الذي اتبعه، ثم توسع فيه حتى صار لمطلق الاتباع، وإن بعد زمان المتبوع، من زمان التابع. وقال أمية:
قالت لأخت له قصيه عن جنب *** وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد
الرسل: جمع رسول، ولا ينقاس فعل في فعول بمعنى مفعول. وتسكين عينه لغة أهل الحجاز، والتحريك لغة بني تميم. عيسى: اسم أعجمي علم لا يصرف للعجمة والعلمية، ووزنه عند سيبويه: فعلى، والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة، بمنزلة ياء معزى، يعني بالياء الألف، سماها ياء لكتابتهم إياها ياء. قال أبو علي: وليست للتأنيث، كالتي في ذكرى، بدلالة صرفهم له في النكرة. وذهب الحافظ أبو عمر، وعثمان بن سعيد الداني، صاحب التصانيف في القراءات، وعثمان بن سعيد الصيرفي وغيره، إلى أن وزنه فعلل، وردّ ذلك الأستاذ أبو الحسن بن الباذش بأن الياء والواو لا يكونان أصلاً في بنات الأربعة. قال بعض أصحابنا: وهذه الأسماء أعجمية، وكل أعجمي استعملته العرب، فالنحويون يتكلمون على أحكامه في التصريف على الحدّ الذي يتكلمون فيه العربي، فعيسى من هذا الباب. انتهى كلامه. ومن زعم أنه مشتق من العيس: وهو بياض يخالطه شقرة، فغير مصيب، لأن الاشتقاق العربي يدخل الأسماء الأعجمية. مريم، باللسان السرياني، معناه: الخادم، وسميت به أم عيسى، فصار علماً، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية. ومريم، باللسان العربي: من النساء، كالزير: من الرجال، وبه فسر قول رؤبة:
قلت لزير لم تصله مريمه ***
والزير: الذي يكثر خلطة النساء وزيارتهنّ، والياء فيه مبدلة من واو، كالريح، إذ هما من الزور والروح، فصار هذا اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى اللسانين. ووزن مريم عند النحويين مفعل، لأن فعيلاً، بفتح الفاء، لم يثبت في الأبنية، كما ثبت نحو: عثير وعلبب، قاله الزمخشري وغيره. وقد أثبت بعض الناس فعيلاً، وجعل منه: ضهيداً، اسم موضع، ومدين، إذا جعلنا ميمه أصلية، وضهياء مقصورة مصروفة، وهي المرأة التي لا تحيض، وقيل: التي لا ثدي لها. قال أبو عمرو الشيباني: ضهياة وضهياءة، بالقصر والمد. قال الزجاج: اشتقاقها من ضأهأت: أي شابهت، لأنها أشبهت الرجل. وقال ابن جني: أما ضهيد وعثير فمصنوعان، فلا يجعلان دليلاً على إثبات فعيل. انتهى. وصحة حرف العلة في مريم على خلاف القياس نحو: مزيد. البين: الواضح، بان: وضح وظهر. أيد: فعل تأييد، أو أيد: أفعل إئياداً، وكلاهما من الأيد، وهو القوة. وقد أبدلوا في أفعل من يائه جيماً، قالوا: أجد، أي قوي، كما أبدلوا ياء يد، قالوا: لا أفعل ذلك جدى الدهر، يريدون يد الدهر، وهو إبدال لا يطرد. والأصل في آيد أاْيد، وصححت العين كما صححت في أغيلت، وهو تصحيح شاذ إلا في فعل التعجب، فتقول: ما أبين! وما أطول! ورآه أبو زيد مقيساً، ولو أعل على حدّ أقتت وأحدت، فألقيت حركة العين على الفاء، وحذفت العين، لوجب أن تنقلب الفاء واواً لتحركها وانفتاح ما قبلها، كما انقلبت في أوادم جمع أدم على أفاعل، ثم تنقلب الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها.
فلما أدّى القياس إلى إعلال الفاء والعين، رفض وصححت العين. الروح، من الحيوان: اسم للجزء الذي تحصل به الحياة، قاله الراغب، واختلف الناس فيه وفي النفس، أهما من المشترك أم من المتباين؟ وفي ماهية النفس والروح، وقد صنف في ذلك. القدس: الطهارة، وقيل: البركة، وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله تعالى: {ونقدّس لك} الرسول، فعول بمعنى: المفعول، أي المرسل، وهو قليل، ومنه: الحلوب، والركوب، بمعنى: المحلوب والمركوب. تهوى: تحب وتختار، ماضيه على فعل، ومصدره الهوى. غلف: جمع أغلف، كأحمر وحمر، وهو الذي لا يفقه، أو جمع غلاف، وهو الغشاء، فيكون أصله التثقيل، فخفف. اللعن: الطرد والإبعاد، يقال: شأو لعين، أي بعيد، وقال الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه *** مقام الذئب كالرجل اللعين
المعرفة: العلم المتعلق بالمفردات، ويسبقه الجهل، بخلاف أصل العلم فإنه يتعلق بالنسب، وقد لا يسبقه الجهل، ولذلك لم يوصف الله تعالى بالمعرفة، ووصف بالعلم. بئس: فعل جعل للذمّ، وصله فعل، وله ولنعم باب معقود في النحو. البغي: الظلم، وأصله الفساد، من قولهم: بغى الجرح: فسد، قاله الأصمعي، وقيل: أصله شدّة الطلب، ومنه ما نبغي، وقول الراجز:
أنشد والباغي يحب الوجدان *** فلائصاً مختلفات الألوان
ومنه سميت الزانية بغياً، لشدّة طلبها للزنا، الإهانة: الإذلال، وهان هواناً: لم يحفل به، وهو معنى الذل، وهو كون الإنسان لا يؤبه به، ولا يلتفت إليه. وراء، من الظروف المتوسطة التصرف، وتكون بمعنى: قدام، وبمعنى: خلف، وهو الأشهر فيه. الخالص: الذي لا يشوبه شيء، يقال: خلص يخلص خلوصاً. تمنى: تفعل من المنية، وهو الشيء المشتهى، وقد يكون المتمنى باللسان بمعنى: التلاوة، ومنه: تمنى على زيد منه حاجة، وجد: مشترك بين الإصابة والعلم والغنى والحرج ويختلف بالمصادر: كالوجدان والوجد والموجدة. الحرص: شدّة الطلب. الودّ: المحبة للشيء والإيثار له، وفعله: ودّ وهو على فعل يفعل، وحكى الكسائي: وددت، فعلى هذا يجوز كسر الواو، إذ يكون فعل يفعل، وفك الإدغام في قوله:
ما في قلوبهم لنا من مودة ***
ضرورة. عمر: التضعيف فيه للنقل، إذ هو من عمر الرجل: أي طال عمره، وعمره الله: أطال عمره، والعمر: مدة البقاء. الألف: عشر من المئين، وقد يتجاوز فيه فيدل على الشيء الكثير، وهو من الألفة، إذ هو ما لف أنواع الأعداد، إذ العشرات مالف الآحاد، والمئون ما لف العشرات، والألف ما لف المئين.
الزحزحة: الإزالة والتنحية عن المقر. بصير: فعيل من بصر به إذا رآه، {فبصرت به عن جنب}، ثم يتجّوز به فيطلق على بصر القلب، وهو العلم. بصير بكذا: أي عالم به.
{ولقد آتينا موسى الكتاب}: تقدّم الكلام في هذه اللام، ويحتمل أن تكون للتأكيد، وأن تكون جواب قسم. ومناسبة هذا لما قبله أن إيتاء موسى الكتاب هو نعمة لهم، إذ فيه أحكامهم وشرائعهم. ثم قابلوا تلك النعمة بالكفران، وذلك جرى على ما سبق من عادتهم، إذ قد أمروا بأشياء ونهوا عن أشياء، فخالفوا أمر الله ونهيه، فناسب ذكر هذه الآية ما قبلها. والإيتاء: الإعطاء، فيحتمل أن يراد به: الإنزال، لأنه أنزله عليه جملة واحدة، ويحتمل أن يراد آتيناه: أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه، فيكون على حذف مضاف آتينا موسى علم الكتاب، أو فهم الكتاب. وموسى: هو نبي الله موسى بن عمران، صلى الله على نبينا وعليه وسلم. والكتاب هنا: التوراة، في قول الجمهور، والألف واللام فيه للعهد، إذ قرن بموسى وانتصابه على أنه مفعول ثان لآتينا. وقد تقدم أنه مفعول أول عند السهيلي، وموسى هو الثاني عنده.
{وقفينا}: هذه الياء أصلها الواو، إلا أنها متى وقعت رابعة أبدلت ياء، كما تقول: غزيت من الغزو، والتضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية، إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين، لأن قفوت يتعدّى إلى واحد. تقول: قفوت زيداً، أي تبعته، فلو جاء على التعدية لكان: وقفيناه من بعده الرسل، وكونه لم يجئ كذلك في القرآن، يبعد أن تكون الباء زائدة في المفعول الأول، ويكون المفعول الثاني جاء محذوفاً. ألا ترى إلى قوله: {ثم فقينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم} ولكنه ضمن معنى جئنا، كأنه قال: وجئنا من بعده بالرسل، يقفو بعضهم بعضاً، ومن في: {من بعده}: لابتداء الغاية، وهو ظاهر، لأنه يحكى أن موسى لم يمت حتى نبئ يوشع. {بالرسل}: أرسل الله على أثر موسى رسلاً وهم: يوشع، وشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان، وشعيا، وأرميا، وعزير، وحزقيل، وإلياس، وأليسع ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم. والباء في بالرسل متعلق بقفينا، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص، ويحتمل أن تكون للعهد، لما استفيد من القرآن وغيره أن هؤلاء بعثوا من بعده، ويحتمل أن تكون التقفية معنوية، وهي كونهم يتبعونه في العمل بالتوراة وأحكامها، ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها. وقرأ الجمهور: بالرسل بضم السين. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر: بتسكينها، وقد تقدم أنهما لغتان، ووافقهما أبو عمرو أن أضيف إلى ضمير جمع نحو: رسلهم ورسلكم ورسلنا، استثقل توالي أربع متحركات، فسكن تخفيفاً.
{وآتينا عيسى ابن مريم}: أضاف عيسى إلى أمه رداً على اليهود فيما أضافوه إليه. {البيانات}: وهي الحجج الواضحة الدالة على نبوّته، فيشمل كل معجزة أوتيها عيسى عليه السلام، وهذا هو الظاهر.
وقيل: الإنجيل. وقيل: الحجج التي أقامها الله على اليهود. وقيل: إبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بالمغيبات، وإحياء الموتى، وهم أربعة: سام بن نوح، والعازر، وابن العجوز، وبنت العشار، ومن الطير: الخفاش، فقيل: لم يكن من قبل عيسى، بل هو صورة، والله نفخ فيه الروح. وقيل: كان قبله، فوضع عيسى على مثاله. قالوا: وإنما اختص هذا النوع من الطير لأنه ليس شيء من الطير أشد خلقاً منه، لأنه لحم كله. وأجمل الله ذكر الرسل، وفصل ذكر عيسى، لأن من قبله كانوا متبعين شريعة موسى، وأما عيسى فنسخ شرعه كثيراً من شرع موسى.
{وأيدناه}: قرأ الجمهور على وزن فعلناه. وقرأ مجاهد، والأعرج، وحميد، وابن محيصن، وحسين، عن أبي عمرو: أأيدناه، على وزن: أفعلناه. وتقدم الكلام على ذلك في المفردات، وفرق بعضهم بينهما فقال: أما المد فمعناه القوة، وأما القصر فالتأييد والنصر، والأصح أنهما بمعنى قويناه، وكلاهما من الأيد، وهو القوة. {بروح القدس}: قراءة الجمهور: بضم القاف والدّال. وقرأ مجاهد: وابن كثير: بسكون الدال حيث وقع، وفيه لغة فتحها. وقرأ أبو حيوة: القدوس، بواو. والروح هنا: اسم الله الأعظم الذي كان به عيسى عليه السلام يحيي الموتى، قاله ابن عباس، أو الإِنجيل، كما سمى الله القرآن روحاً، قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} قاله ابن زيد، أو الروح التي نفخها تعالى في عيسى عليه السلام، أو جبريل عليه السلام، قاله قتادة والسدّي والضحاك والربيع، ونسب هذا القول لابن عباس، قاله ابن عطية، وهذا أصح الأقوال. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت «أهج قريشاً وروح القدس معك»، ومرة قال له؛ «وجبريل معك» انتهى كلامه. قالوا: ويقوي ذلك قوله تعالى: {إذ أيدتك بروح القدس} وقال حسان:
وجبريل رسول الله فينا *** وروح القدس ليس له كفاء
وتسمية جبريل بذلك، لأن الغالب على جسمه الروحانية، وكذلك سائر الملائكة، أو لأنه يحيا به الدين، كما يحيا البدن بالروح، فإنه هو المتولي لإنزال الوحي، أو لتكوينه روحاً من غير ولادة. وتأييد الله عيسى بجبريل عليهما السلام لإظهار حجته وأمر دينه، أو لدفع اليهود عنه، إذ أرادوا قتله، أو في جميع أحواله. واختار الزمخشري أن معناه: بالروح المقدسة، قال: كما يقال حاتم الجود، ورجل صدق. ووصفها بالقدس كما قال: وروح منه، فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة. انتهى كلامه. وقد تقدّم معنى القدس أنه الطهارة أو البركة. وقال مجاهد والربيع: القدس من أسماء الله تعالى، كالقدّوس. قالوا: وإطلاق الرّوح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى اسم الله الأعظم مجاز، لأن الرّوح هو الريح المتردد في مخارق الإنسان في منافذه. ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك، إلا أن كلاً منها أطلق الرّوح عليه على سبيل التشبيه، من حيث إن الرّوح سبب للحياة، فجبريل هو سبب لحياة القلوب بالعلوم، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها، والاسم الأعظم سبب لأن يتوصل به إلى تحصيل الأغراض.
والمشابهة بين جبريل والرّوح أتم، ولأن هذه التسمية فيه أظهر، ولأن المراد من أيدناه: قوّيناه وأعناه، وإسنادها إلى جبريل حقيقة، وإلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز. ولأن اختصاص عيسى بجبريل من آكد وجوه الاختصاص، إذ لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك، لأنه هو الذي بشر مريم بولادته، وتولد عيسى بنفخه، ورباه في جميع الأحوال، وكان يسير معه حيث سار، وكان معه حيث صعد إلى السماء.
{أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم}: الهمزة أصلها للاستفهام، وهي هنا للتوبيخ والتقريع. والفاء لعطف الجملة على ما قبلها، واعتنى بحرف الاستفهام فقدم، والأصل فأكلما. ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها، كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل، آتيناكم ما آتيناكم. فكلما جاءكم رسول. ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق. وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى: {كلما رزقوا منها} فأغنى عن إعادته. والناصب لها قوله: {استكبرتم}. والخطاب في جاءكم يجوز أن يكون عاماً لجميع بني إسرائيل، إذ كانوا على طبع واحد من سوء الأخلاق، وتكذيب الرسل، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم، والشك والارتياب فيما أتوهم به، أو يكون عائداً إلى أسلافهم الذين فعلوا ذلك. وسياق الآيات يدل عليه أو إلى من بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبنائهم، لأنهم راضون بفعلهم، والراضي كالفاعل. وقد كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وسقوه السم ليقتلوه، وسحروه. وبما: متعلق بقوله: جاءكم، وما موصولة، والعائد محذوف، أي لا تهواه. وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بحق، ومنه هذه الآية. وأسند الهوى إلى النفس، ولم يسند إلى ضمير المخاطب، فكان يكون بما لا تهوون إشعاراً بأن النفس يسند إليها غالباً الأفعال السيئة {إن النفس لأمّارة بالسوء} {فطوّعت له نفسه قتل أخيه} {قال بل سوّلت لكم أنفسكم} استكبرتم: استفعل هنا: بمعنى تفعل، وهو أحد معاني استفعل. وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه سفه الحق وغمط الناس. والمعنى قيل: استكبرتم عن إجابته احتقاراً للرسول. أو استبعاداً للرسالة، وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الذي هو محل النقصائص ونتيجة الإعجاب. وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق، وإن ذلك كان يتكرر منهم بتكرر مجيء الرسل إليهم، وهو كما ذكرنا استبكار بمعنى التكبر، وهو مشعر بالتكلف والتفعل، لذلك لا أنهم يصيرون بذلك كبراء عظماء، بل يتفعلون ذلك ولا يبلغون حقيقته، لأن الكبرياء إنما هي لله تعالى، فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة.
{ففريقاً كذبتم}: ظاهره أنه معطوف على قوله: استكبرتم، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط، حيث لا يقدرون على قتله، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله. وتهيأ لهم ذلك، ويضمن أن من قتلوه فقد كذبوه. واستغنى عن التصريح بتكذيبه للعلم بذلك، فذكر أقبح أفعالهم معه، وهو قتله. وأجاز أبو القاسم الراغب أن {ففريقاً كذبتم} معطوفاً على قوله: {وأيدناه}، ويكون قوله: أفكلما مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنكار. والأظهر في ترتيب الكلام الأول، وهذا أيضاً محتمل، وأخر العامل وقدّم المفعول ليتواخى رؤوس الآي، وثم محذوف تقديره: ففريقاً منهم كذبتم، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر، ولأنه المشترك بين الفريقين: المكذب والمقتول.
{وفريقاً تقتلون}: وأتى بفعل القتل مضارعاً، إما لكونه حكيت أنه الحال الماضية، إن كانت أريدت فاستحضرت في النفوس، وصور حتى كأنه ملتبس به مشروع فيه، ولما فيه من مناسبة رؤوس الآي التي هي فواصل، وإما لكونه مستقبلاً، لأنهم يرومون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك سحروه وسموه. وقال صلى الله عليه وسلم عند موته: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري» وكان في ذلك على هذا الوجه تنبيه على أن عادتهم قتل أنبيائهم، لأن هذا النبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وقد أمروا بالإيمان به والنصر له، يرومون قتله. فكيف من لم يكن فيه تقدم عهد من الله؟ فقتله عندهم أولى. قال ابن عطية عن بني إسرائيل: كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم تقوم سوقهم آخر النهار. وروي سبعين نبياً، ثم تقوم سوق نقلهم آخر النهار.
{وقالوا قلوبنا غلف}: الضمير في قالوا عائد على اليهود، وهم أبناء بني إسرائيل الذين كانوا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا ذلك بهتاً ودفعاً لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات، وأعجزتهم عن مدافعة الحق المعجزات. نزلوا عن رتبة الإنسانية إلى رتبة البهيمية. وقرأ الجمهور: غلف، بإسكان اللام. وتقدم الكلام على سكون اللام، أهو سكون أصلي فيكون جمع أغلف؟ أم هو سكون تخفيف فيكون جمع غلاف؟ وأصله الضم، كحمار وحمر. قال ابن عطية: وهنا يشير إلى أن التخفيف من التثقيل قلما يستعمل إلا في الشعر. ونص ابن مالك على أنه يجوز التسكين في نحو: حمر جمع حمار، دون ضرورة. وقرأ ابن عباس، والأعرج، وابن هرمز، وابن محيصن، غلف: بضم اللام، وهي مروية عن أبي عمرو، وهو جمع غلاف، ولا يجوز أن يكون في هذه القراءة جمع أغلف، لأن تثقيل فعل الصحيح العين لا يجوز إلا في الشعر. يقال غلفت السيف: جعلت له غلافاً.
فأما من قرأ: غلف بالإسكان، فمعناه أنها مستورة عن الفهم والتمييز. وقال مجاهد: أي عليها غشاوة. وقال عكرمة: عليها طابع. وقال الزجاج: ذوات غلف، أي عليها غلف لا تصل إليها الموعظة. وقيل معناه: خلقت غلفاً لا تتدبر ولا تعتبر. وقيل: محجوبة عن سماع ما تقول وفهم ما تبين. ويحتمل عل هذه القراءة أن يكون قولهم هذا على سبيل البهت والمدافعة، حتى يسكتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون ذلك خبراً منهم بحال قلوبهم، لأن الأول فيه ذم أنفسهم بما ليس فيها، وكانوا يدفعوا بغير ذلك، وأسباب الدفع كثيرة. وأما من قرأ بضم اللام فمعناه أنها أوعية للعلم، أقاموا العلم مقام شيء مجسد، وجعلوا الموانع التي تمنعهم غلفاً له، ليستدل بالمحسوس على المعقول. ويحتمل أن يريدوا بذلك أنها أوعية للعلم، فلو كان ما تقوله حقاً وصدقاً لوعته، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي. ويحتمل أن يكون المعنى: أن قلوبنا غلف، أي مملوءة علماً، فلا تسع شيئاً، ولا تحتاج إلى علم غيره، فإن الشيء المغلف لا يسع غلافه غيره. ويحتمل أن يكون المعنى: أن قلوبهم غلف على ما فيها من دينهم وشريعتهم، واعتقادهم أن دوام ملتهم إلى يوم القيامة، وهي لصلابتها وقوّتها، تمنع أن يصل إليها غير ما فيها، كالغلاف الذي يصون المغلف أن يصل إليه ما بغيره. وقيل: المعنى كالغلاف الخالي لا شيء فيه.
{بل لعنهم الله بكفرهم}: بل: للإضراب، وليس إضراباً عن اللفظ المقول، لأنه واقع لا محالة، فلا يضرب عنه، وإنما الإضراب عن النسبة التي تضمنها قولهم: إن قلوبهم غلف، لأنها خلقت متمكنة من قبول الحق، مفطورة لإدراك الصواب، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه. ثم أخبر تعالى أنهم لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم، وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الذي هو الكفر. {فقليلاً مّا يؤمنون}: انتصاب قليلاً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي فإيماناً قليلاً يؤمنون، قاله قتادة. وعلى مذهب سيبويه: انتصابه على الحال، التقدير: فيؤمنونه، أي الإيمان في حال قلته. وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف، أي فزماناً قليلاً يؤمنون، لقوله تعالى: {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره} وجوزوا أيضاً انتصابه بيؤمنون على أن أصله فقليل يؤمنون، ثم لما أسقط الباء تعدي إليه الفعل، وهو قول معمر. وجوّزوا أيضاً أن يكون حالاً من الفاعل الذي هو الضمير في يؤمنون، المعنى: أي فجمعاً قليلاً يؤمنون، أي المؤمن منهم قليل، وقال هذا المعنى ابن عباس وقتادة، وملخصه: أن القلة إما للنسبة للفعل الذي هو المصدر، أو للزمان، أو للمؤمن به، أو للفاعل. فبالنسبة إلى المصدر: تكون القلة بحسب متعلقه، لأن الإيمان لا يتصف بالقلة والكثرة حقيقة. وبالنسبة إلى الزمان: تكون القلة فيه لكونه قبل مبعثه، صلى الله عليه وسلم، قليلاً، وهو زمان الاستفتاح، ثم كفروا بعد ذلك.
وبالنسبة إلى المؤمن به: تكون القلة لكونهم لم يبق لهم من ذلك إلا توحيد الله على غير وجهه، إذ هم مجسمون، وقد كذبوا بالرسول وبالتوراة. وبالنسبة للفاعل: تكون القلة لكون من آمن منهم بالرسول قليلاً. وقال الواقدي: المعنى أي لا قليلاً ولا كثيراً، يقال قل ما يفعل، أي ما يفعل أصلاً. وقال ابن الأنباري: إن المعنى فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً. وقال المهدوي: مذهب قتادة أن المعنى: فقليل منهم من يؤمن، وأنكره النحويون وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع قليل. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم، وما ذهبوا إليه من أن قليلاً يراد به النفي صحيح، لكن في غير هذا التركيب، أعني قوله تعالى: {فقليلاً لا يؤمنون}، لأن قليلاً انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير: قمت قليلاً، أي قياماً قليلاً. ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت قليلاً منصوباً نعتاً لمصدر ذلك الفعل، يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأساً وعدم وقوعه بالكلية. وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم: أقل رجل يقول ذلك، وقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد، وقليل من الرجال يقول ذلك، وقليلة من النساء تقول ذلك. وإذا تقرر هذا، فحمل القلة هنا على النفي المحض ليس بصحيح. وأما ما ذكره المهدوي من مذهب قتادة، وإنكار النحويين ذلك، وقولهم: لو كان كذلك للزم رفع قليل. فقول قتادة صحيح، ولا يلزم ما ذكره النحويون، لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه، ولم يرد شرح الأعراب فيلزمه ذلك. وإنما انتصاب قليلاً عنده على الحال من الضمير في يؤمنون، والمعنى عنده: فيؤمنون قوماً قليلاً، أي في حالة قلة. وهذا معناه: فقليل منهم من يؤمن. وما في قوله: ما يؤمنون، زائدة مؤكدة، دخلت بين المعمول والعامل، نظير قولهم: رويد ما الشعر، وخرج ما أنف خاطب بدم. ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية، لأنه كان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر. والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول، وهو أن يكون المعنى: فإيماناً قليلاً يؤمنون، لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة، وعلى المفعول، وعلى الفاعل، ولموافقته ظاهر قوله تعالى: {فلا يؤمنون إلا قليلاً}. وأما قول العرب: مررنا بأرض قليلاً ما تنبت، وأنهم يريدون لا تنبت شيئاً، فإنما ذلك لأن قليلاً انتصب على الحال من أرض، وإن كان نكرة، وما مصدرية، والتقدير: قليلاً إنباتها، أي لا تنبت شيئاً، وليست ما زائدة، وقليلاً نعت لمصدر محذوف، تقدير الكلام: تنبت قليلاً، إذ لو كان التركيب المقدر هذا لما صلح أن يراد بالقليل النفي المحض، لأن قولك: تنبت قليلاً، لا يدل على نفي الإنبات رأساً، وكذلك لو قلنا: ضربت ضرباً قليلاً، لم يكن معناه ما ضربت أصلاً.
{ولما جاءهم}: الضمير عائد على اليهود، ونزلت فيهم حين كانت غطفان تقاتلهم وتهزمهم، أو حين كانوا يلقون من العرب أذى كثيراً، أو حين حاربهم الأوس والخزرج فغلبتهم. {كتاب}: هو القرآن، وإسناد المجيء إليه مجاز. {من عند الله}: في موضع الصفة، ووصفه بمن عند الله جدير أن يقبل، ويتبع ما فيه، ويعمل بمضمونه، إذ هو وارد من عند خالقهم وإلههم الذي هو ناظر في مصالحهم. {مصدّق}: صفة ثانية، وقدّمت الأولى عليها، لأن الوصف بكينونته من عند الله آكد، ووصفه بالتصديق ناشئ عن كونه من عند الله. لا يقال: إنه يحتمل أن يكون {من عند الله} متعلقاً بجاءهم، فلا يكون صفة للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما. وفي مصحف أبيّ مصدقاً، وبه قرأ ابن أبي عبلة ونصبه على الحال من كتاب، وإن كان نكرة. وقد أجاز ذلك سيبويه بلا شرط، فقد تخصصت بالصفة، فقربت من المعرفة. {لما معهم}: هو التوراة والإنجيل، وتصديقه إما بكونهما من عند الله، أو بما اشتملا عليه من ذكر بعث الرسول ونعته.
{وكانوا}: يجوز أن يكون معطوفاً على جاءهم، فيكون جواب لما مرتباً على المجيء والكون. ويحتمل أن يكون جملة حالية، أي وقد كانوا، فيكون الجواب مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله، وهم كونهم يستفتحون. وظاهر كلام الزمخشري أن قوله: وكانوا أليست معطوفة على الفعل بعد لما، ولا حالاً لأنه قدّر جواب لما محذوفاً قبل تفسيره يستفتحون، فدل على أن قوله: وكانوا، جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله: ولما. {من قبل}: أي من قبل المجيء، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة.
{يستفتحون}: أي يستحكمون، أو يستعلمون، أو يستنصرون، أقوال ثلاثة. يقولون، إذا دهمهم العدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة. واختلفوا في جواب ولما الأولى، فذهب الأخفش والزجاج إلى أنه محذوف لدلالة المعنى عليه، واختاره الزمخشري وقدره نحو: كذبوا به واستهانوا بمجيئه، وقدره غيره: كفروا، فحذف لدلالة كفروا به عليه، والمعنى قريب في ذلك. وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله: {فلما جاءهم} جواب لما الأولى، وكفروا جواب لقوله: فلما جاءهم. وهو عنده نظير قوله: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف} قال: ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواو لا تصلح في موضعها. وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو: كفروا به، وكرر لما لطول الكلام، ويقيد ذلك تقريراً للذنب وتأكيداً له. وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد.
وأما قول الفراء فلم يثبت من لسانهم، لما جاء زيد، فلما جاء خالد أقبل جعفر، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته، ولا حجة في هذا المختلف فيه، فالأولى أن كون الجواب محذوفاً لدلالة المعنى عليه، وأن يكون التقدير: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم} كذبوه، ويكون التكذيب حاصلاً بنفس مجيء الكتاب من غير فكر فيه ولا روّية، بل بادروا إلى تكذيبه. ثم قال تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون}، أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبياً يبعث قد قرب وقت بعثه، فكانوا يخبرون بذلك.
{فلما جاءهم ما عرفوا}: وما سبق لهم تعريفه للمشركين. {كفروا به}: ستروه وجحدوه، وهذا أبلغ في ذمهم، إذ يكون الشيء المعروف لهم، المستقر في قلوبهم وقلوب من أعلموهم به كيانه ونعته يعمدون إلى ستره وجحده، قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} وقال أبو القاسم الراغب: ما ملخصه الاستفتاح، طلب الفتح، وهو ضربان: إلهي، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم المؤدية إلى الثواب، ومنه {إنا فتحنا لك} فعسى أن يأتي بالفتح. ودنيوي، وهو النصرة بالوصول إلى اللذات البدنية، ومنه {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} فمعنى يستفتحون: أي يعلمون خبره من الناس مرّة، ويستنبطون ذكره من الكتب مرة. وقيل: يطلبون من الله بذكره الظفر. وقيل: كانوا يقولون إنا ننصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على عبدة الأوثان. وكل ذلك داخل في عموم الاستفتاح. انتهى. وظاهر قوله: ما عرفوا أنه الكتاب، لأنه أتى بلفظ ما، ويحتمل أنه يراد به النبي صلى الله عليه وسلم. فإن ما قد يعبر بها عن صفات من يعقل، ويجوز أن يكون المعنى: ما عرفوه من الحق، فيندرج فيه معرفة نبوّته وشريعته وكتابه، وما تضمنه.
{فلعنة الله على الكافرين}: لما كان الكتاب جائياً من عند الله إليهم، فكذبوه وستروا ما سبق لهم عرفانه، فكان ذلك استهانة بالمرسل والمرسل به. قابلهم الله بالاستهانة والطرد، وأضاف اللعنة إلى الله تعالى على سبيل المبالغة، لأن من لعنه الله تعالى هو الملعون حقيقة. {قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله} {ومن يعلن الله فلن تجد له نصيراً} ثم إنه لم يكتف باللعنة حتى جعلها مستعلية عليهم، كأنه شيء جاءهم من أعلاهم، فجللهم بها، ثم نبه على علة اللعنة وسببها، وهي الكفر، كما قال قبل: {بل لعنهم الله بكفرهم}، وأقام الظاهر مقام المضمر لهذا المعنى، فتكون الألف واللام للعهد، أو تكون للعموم، فيكون هؤلاء فرداً من أفراد العموم. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون للجنس، ويكون فيه دخولاً أولياً. ونعني بالجنس العموم، وتخيله أنهم يدخلون فيه دخولاً أولياً ليس بشيء، لأن دلالة العلة على إفراده ليس فيها بعض الإفراد أولى من بعض، وإنما هي دلالة على كل فرد فرد، فهي دلالة متساوية.
وإذا كانت دلالة متساوية، فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء.
{بئسما اشتروا به أنفسهم}: تقدّم الكلام على بئس، وأما ما فاختلف فيها، ألها موضع من الإعراب أم لا. فذهب الفرّاء إلى أنه بجملته شيء واحد ركب، كحبذا، هذا نقل ابن عطية عنه. وقال المهدوي: قال الفرّاء يجوز أن تكون ما مع بئس بمنزلة كلما، فظاهر هذين النقلين أن ما لا موضع لها من الإعراب، وذهب الجمهور إلى أن لها موضعاً من الإعراب. واختلف، أموضعها نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى أن موضعها نصب على التمييز، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة، وفاعل بئس مضمر مفسر بما، التقدير: بئس هو شيئاً اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا هو المخصوص بالذم، وبه قال الفارسي في أحد قوليه، واختاره الزمخشري. ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً، واشتروا صفة له، والتقدير: بئس شيئاً شيء اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا بدل من ذلك المحذوف، فهو في موضع رفع، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أن يكفروا. وذهب الكسائي في أحد قوليه إلى ما ذهب إليه هؤلاء، من أن ما موضعها نصب على التمييز، وثم ما أخرى محذوفة موصولة هي المخصوص بالذم، التقدير: بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم. فالجملة بعدما المحذوفة صلة لها، فلا موضع لها من الإعراب. وأن يكفروا على هذا القول بدل، ويجوز على هذا القول أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو كفرهم. فتلخص في قول النصب في الجملة بعدما أقوال ثلاثة: أن يكون صفة لما هذه التي هي تمييز فموضعها نصب، أو صلة لما المحذوفة الموصولة فلا موضع لها، أو صفة لشيء المحذوف المخصوص بالذم فموضعها الرفع، وذهب سيبويه إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل بئس، فقال سيبويه: هي معرفة تامة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذم على هذا محذوف، أي شيء اشتروا به أنفسه


جبريل: اسم ملك علم له، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو اسم أعجمي ممنوع الصرف، للعلمية والعجمة، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله، ومن ذهب إلى أنه مركب تركيب الإضافة. ومعنى جبر: عبد وإيل، اسم من أسماء الله، لأن الأعجمي لا يدخله الاشتقاق العربي، ولأنه لو كان مركباً تركيب الإضافة لكان مصروفاً. وقال المهدوي: ومن قال: جبر، مثل: عبد وإيل، اسم من أسماء الله، جعله بمنزلة حضرموت. انتهى كلامه. يعني أنه يجعله مركباً تركيب المزح، فيمنعه الصرف للعلمية والتركيب. وليس ما ذكر بصحيح، لأنه إما أن يلحظ فيه معنى الإضافة، فيلزم الصرف في الثاني، وإجراء الأول بوجوه الإعراب، أو لا يلحظ، فيركبه تركيب المزج. فما يركب تركيب المزج يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف، فكونه لم يسمع فيه الإضافة، ولا البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج. وقد تصرّفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة. قالوا: جبريل: كقنديل، وهي لغة أهل الحجاز، وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو ونافع وحفص. وقال ورقة بن نوفل:
وجبريل يأتيه وميكال معهما *** من الله وحي يشرح الصدر منزل
وقال عمران بن حطان:
والروح جبريل منهم لا كفاء له *** وكان جبريل عند الله مأموناً
وقال حسان:
وجبريل رسول الله فينا *** وروح القدس ليس له كفاء
وكذلك إلا أن الجيم مفتوحة، وبها قراءة الحسن وابن كثير وابن محيصن. قال الفراء: لا أحبها، لأنه ليس في الكلام فعليل، وما قاله ليس بشيء، لأن ما أدخلته العرب في كلامها على قسمين: منه ما تلحقه بأبنية كلامها، كلجام، ومنه ما لا تلحقه بها، كابريسم. فجبريل، بفتح الجيم، من هذا القبيل. وقيل: جبريل مثل شمويل، وهو طائر. وجبرئيل كعنتر يس، وهي لغة: تميم، وقيس، وكثير من أهل نجد. حكاها الفراء، واختارها الزجاج وقال: هي أجود اللغات. وقال حسان:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة *** مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها
وقال جرير:
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد *** وبجبرئيل وكذبوا ميكال
وهي قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وحماد بن أبي زياد، عن أبي بكر، عن عاصم. ورواها الكسائي، عن عاصم، وكذلك. إلا أنه بغير ياء بعد الهمزة، وهي رواية يحيى بن آدم، عن أبي بكر، عن عاصم. وتروى عن يحيى بن يعمر، وكذلك. إلا أن اللام مشدّدة، وهي قراءة أبان، عن عاصم ويحيى بن يعمر. وجبرائيل وجبراييل، وقرأ بهما ابن عباس وعكرمة. وجبرالُ وجبرائل بالياء والقصر، وبها قرأ طلحة. وجبراييل بألف بعد الراء، بعدها ياءان، أولاهما مكسورة، وقرأ بها الأعمش وابن يعمر أيضاً.
وجبرين وجبرين، وهذه لغة أسد. وجبرائين. قال أبو جعفر النحاس: جمع جبريل جمع التكسير على جباريل على اللغة العالية. إذن: به علم به، وآذنه: أعلمه. آذنتكم على سواء: أعلمتكم. ثم يطلق على التمكين. إذن لي في كذا: أي مكنني منه. وعلى الاختيار فعلته بإذنك: أي باختيارك. ميكائيل: الكلام فيه كالكلام في جبريل، أعني من منع الصرف. وبعد قول من ذهب إلى أنه مشتق من ملكوت الله، أو ذهب إلى أن معنى ميكا: عبد، وايل: اسم من أسماء الله تعالى، وقد تصرفت فيه العرب. قالوا: ميكال، كمفعال، وبها قرأ أبو عمرو وحفص، وهي لغة الحجاز. وقال الشاعر:
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد *** فيه مع النصر ميكال وجبريل
وكذلك. إلا أن بعد الألف همزة، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ لقنبل، وكذلك. إلا أنه بياء بعد الهمزة، وبها قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر، وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي. وميكييل كميكعيل، وبها قرأ ابن محيصن، وكذلك. إلا أنه لا ياء بعد الهمزة. وقرئ بها: وميكاييل بياءين بعد الألف، أولاهما مكسورة، وبها قرأ الأعمش. نبذ الشيء، ينبذه نبذاً: طرحه وألقاه. الظهر: معروف، وجمع فعل الاسم غير المعتل العين على فعول قياس: كظهور، وعلى فعلان: كظهران، وهو مشتق من الظهور. تقول: ظهر الشيء ظهوراً، إذا بدا. تلا يتلو: تبع. وتلا القرآن: قرأه وتلا عليه كذب، قاله أبو مسلم. وقال أيضاً: تلا عنه صدف، فإذا لم يذكر الصلتين احتمل الأمرين. سليمان: اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية. والعجمة، ونظيره من الأعجمية، في أن في آخره ألفاً ونوناً: هامان، وماهان، وسامان، وليس امتناعه من الصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون: كعثمان، لأن زيادة الألف والنون موقوفة على الاشتقاق والتصريف. والاشتقاق والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية. السحر: مصدر سحر يسحر سحراً، ولا يوجد مصدر لفعل يفعل على وزن فعل إلا سحر وفعل، قاله بعض أهل العلم. قال الجوهري: كل ما لطف ودق فهو سحر. يقال سحره: أبدى له أمراً يدق عليه ويخفى. انتهى. وقال:
أداء عراني من حبائك أم سحر ***
ويقال سحره: خدعه، ومنه قول امرئ القيس:
أرانا موضعين لأمر عيب *** ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نعلل ونخدع. وسيأتي الكلام على مدلول السحر في الآية. بابل: اسم أعجمي، اسم أرض، وسيأتي تعيينها. هاروت وماروت: اسمان أعجميان، وسيأتي الكلام على مدلولهما، ويجمعان على: هواريت ومواريت، ويقال: هوارته وموارته، ومثل ذلك: طالوت وجالوت. الفتنة: الابتلاء والاختبار. فتن يفتن فتوناً وفتنة. المرء: الرجل، والأفصح فتح الميم مطلقاً، وحكي الضم مطلقاً، وحكي اتباع حركة الميم لحركة الإعراب فتقول: قام المرء: بضم الميم، ورأيت المرء: بفتح الميم، ومررت بالمرء: بكسر الميم، ومؤنثه المرأة.
وقد جاء جمعه بالواو والنون، قالوا: المرؤون. الضرر والنفع معروفان، ويقال: ضرّ يضر، بضم الضاد، وهو قياس المضعف المتعدي ومصدره: الضرّ والضرّ والضرر، ويقال: ضار يضير، قال:
يقول أناس لا يضيرك نابها *** بلى كل ما شف النفوس يضيرها
ويقال: نفع ينفع نفعاً. ورأيت في شرح الموجز، الذي للرماني في النحو، وهو تأليف رجل يقال له الأهوازي، وليس بأبي على الأهوازي المقري، أنه لا يقال منه اسم مفعول نحو منفوع، والقياس النحوي يقتضيه. الخلاق، في اللغة: النصيب، قاله الزجاج. قال: لكنه أكثر ما يستعمل في الخير، قال:
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم *** إلا السرابيل من قطر وأغلال
والخلاق: القدر، قال الشاعر:
فما لك بيت لدى الشامخات *** وما لك في غالب من خلاق
مثوبة: مفعلة من الثواب، نقلت حركة الواو إلى الثاء، ويقال مثوبة. وكان قياسه الإعلال فتقول: مثابة، ولكنهم صححوه كما صححوا في الأعلام مكورة، ونظيرهما في الوزن من الصحيح: مقبره ومقبره.
{قل من كان عدوًّا لجبريل}: أجمع أهل التفسير أن اليهود قالوا: جبريل عدوّنا، واختلف في كيفية ذلك، وهل كان سبب النزول محاورتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو محاورتهم مع عمر؟ وملخص العداوة: أن ذلك لكونه يأتي بالهلاك والخسف والجدب، ولو كان ميكال صاحب محمد لاتبعناه، لأنه يأتي بالخصب والسلم، ولكونه دافع عن بخت نصّر حين أردنا قتله، فخرب بيت المقدس وأهلكنا، ولكونه يطلع محمداً صلى الله عليه وسلم على سرنا. والخطاب بقوله: قل للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعمول القول: الجملة بعدو من هنا شرطية. وقال الراغب: العداوة، التجاوز ومنافاة الالتئام. فبالقلب يقال العداوة، وبالمشي يقال العدو، وبالإخلال في العدل يقال العدوان، وبالمكان أو النسب يقال قوم عدي، أي غرباء.
{فإنه نزله}: ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه، فلو قلت: من يكرمني؟ فزيد قائم، لم يجز. وقوله: {فإنه نزله على قلبك}، ليس فيه ضمير يعود على من. وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري، وهو خطأ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير، ولمضي فعل التنزيل، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه، التقدير: فعداوته لا وجه لها، أو ما أشبه هذا التقدير. والضمير في فإنه عائد على جبريل، والضمير في نزله عائد على القرآن لدلالة المعنى عليه. ألا ترى إلى قوله: {مصدّقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين}؟ وهذه كلها من صفات القرآن. ولقوله: {بإذن الله}، أي فإن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله. وقيل: الضمير في فإنه عائد على الله، وفي نزله عائد على جبريل، التقدير: فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك.
وفي كل من هذين التقديرين إضمار يعود على ما يدل عليه سياق المعنى. لكن التقدير الأول أولى، لما ذكرناه، وليكون موافقاً لقوله: {نزل به الروح الأمين على قلبك} وينظر للتقدير الثاني قراءة من قرأ: نزل بالتشديد، والروح بالنصب. ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كان عدواً لجبريل، فعداوته لا وجه لها، لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب، والهادي والمبشر، كمن آمن. ومن كان هذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله، أو من كان عدوًّا لجبريل، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدّق لكتابهم، والملزم لهم اتباعك، وهم لا يريدون ذلك، ولذلك حرّفوا ما في كتبهم من صفاتك، ومن أخذ العهود عليهم فيها، بأن يتبعوك. والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين: أن التقدير الأول موجب لعدم العداوة، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك: إن عاداك زيد، فقد آذيته وأسأت إليه.
{على قلبك}: أتى بلفظ على، لأن القرآن مستعل على القلب، إذ القلب سامع له ومطيع، يمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه. وكانت أبلع من إلى، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط، وعلى تدل على الاستعلاء. وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه. وخص القلب، ولم يأت عليك، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها، أو لأنه سلطان الجسد. وفي الحديث: «إن في الجسد مضغة» ثم قال أخيراً: «ألا وهي القلب» أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنه بيت الله، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقاً للمحل على الحال به، أو عن الجملة الإنسانية، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} أو يكون إطلاقاً لبعض الشيء على كله، أقوال سبعة. وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب، ولم يضفه إلى ياء المتكلم، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهراً، لأن قوله: {من كان عدواً لجبريل}، هو معمول لقول مضمر، التقدير: قل يا محمد قال الله من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك. وإلى هذا نحا الزمخشري بقوله: جاءت على حكاية كلام الله تعالى، كأنه قيل: ما تكلمت به من قولي: {من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك}، وكلامه فيه تثبيج. وقال ابن عطية: يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله، فيسرده مخاطبة له، كما تقول: قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هذه الآية، ونحو من هذا قول الفرزدق:
ألم تر أني يوم جوّ سويقة *** دعوت فنادتني هنيدة ماليا
فأحرز المعنى، ونكب عن نداء هنيدة مالك. انتهى كلامه، وهو تخريج حسن، ويكون إذ ذاك الجملة الشرطية معمولة للفظ: قل، لا لقول: مضمر، وهو ظاهر الكلام {بإذن الله}: أي بأمر الله، اختاره في المنتخب ومنه: {لا تكلم نفس إلا بإذنه} {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقد صرح بذلك في: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة، قاله ابن عطية؛ أو باختياره، قاله الماوردي، أو بتيسيره وتسهيله، قاله الزمخشري. {مصدّقاً لما بين يديه}: انتصاب مصدقاً على الحال من الضمير المنصوب في نزله، إن كان يعود على القرآن، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حالاً من المجرور المحذوف لفهم المعنى، لأن المعنى: فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقاً. والثاني: أن يكون حالاً من جبريل. وما: في لما موصولة، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله، أو التوراة والإنجيل. والهاء: في بين يديه يحتمل أن تكون عائدة على القرآن، ويحتمل أن تعود على جبريل. فالمعنى مصدقاً لما بين يديه من الرسل والكتب.
{وهدى وبشرى}: معطوفان على مصدّقاً، فهما حالان، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل كأنه قال: وهادياً ومبشراً، أو من باب المبالغة، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى، جعل نفس الهدى والبشرى. والألف في بشرى للتأنيث، كهي في رجعى، وهو مصدر. وقد تقدّم الكلام على المعنى في قوله: {وبشر الذين آمنوا} في أوائل هذه السورة، والمعنى: أنه وصف القرآن بتصديقه لما تقدّمه من الكتب الإلهية، وأنه هدى، إذ فيه بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب والجوارح، وأنه بشرى لمن حصل له الهدى. فصار هذا الترتيب اللفظي في هذه الأحوال، لكون مدلولاتها ترتبت ترتيباً وجودياً. فالأول: كونه مصدّقاً للكتب، وذلك لأن الكتب كلها من ينبوع واحد. والثاني: أن الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق. والثالث: أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية. وقال الراغب: وهدى من الضلالة وبشرى بالجنة. {للمؤمنين}: خص الهدى والبشرى بالمؤمنين، لأن غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به ولا بشرى، كما قال: {وهو عليهم عمى} ولأن المؤمنين هم المبشرون، {فبشر عبادي} {يبشرهم ربهم برحمة منه} ودلت هذه الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة. ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، قالوا: وهذه الآية تعلقت بها الباطنية، وقالوا: إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول. وردّ عليهم: بأنه معجزة ظاهرة بنظمه، وأن الله سماه وحياً وكتاباً وعربياً، وأن جبريل نزل به، والملهم لا يحتاج إلى جبريل.
{من كان عدوًّا لله}: العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة، وعداوة العبد لله تعالى مجاز، ومعناها: مخالفة الأمر، وعداوة الله للعبد، مجازاته على مخالفته.
{وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين}. أكد بقوله: وملائكته، أمر جبريل، إذ اليهود قد أخبرت أنه عدوهم من الملائكة، لكونه يأتي بالهلاك والعذاب، فرد عليهم في الآية السابقة، بأنه أتى بأصل الخيور كلها، وهو القرآن الجامع لتلك الصفات الشريفة، من موافقته لكتبهم، وكونه هدى وبشرى، فكانت تجب محبته. وردّ عليهم في هذه الآية، بأن قرنه باسمه تعالى مندرجاً تحت عموم ملائكته، ثم ثانياً تحت عموم رسله، لأن الرسل تشمل الملائكة وغيرهم ممن أرسل من بني آدم، ثم ثالثاً بالتنصيص على ذكره مجرداً مع من يدّعون أنهم يحبونه، وهو ميكال، فصار مذكوراً في هذه الآية ثلاث مرار، كل ذلك رد على اليهود وذم لهم، وتنويه بجبريل. ودلت الآية على أن الله تعالى عدوّ لمن عادى الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال. ولا يدل ذلك على أن المراد من جمع عداوة الجميع، فالله تعالى عدوّه، وإنما المعنى أن من عادى واحداً ممن ذكر، فالله عدوه، إذ معاداة واحد ممن ذكر معاداة للجميع. وقد أجمع المسلمون على أن من أبغض رسولاً أو ملكاً فقد كفر. فقال بعض الناس: الواو هنا بمعنى أو، وليست للجمع. وقال بعضهم: الواو للتفصيل، ولا يراد أيضاً أن يكون عدواً لجميع الملائكة، ولا لجميع الرسل، بل هذ من باب التعليق على الجنس بصورة الجمع، كقولك: إن كلمت الرجال فأنت طالق، لا يريد بذلك إن كلمت كل الرجال، ولا أقل ما ينطلق عليه الجمع، وإنما علق بالجنس، وإن كان بصورة الجمع، فلو كلمت رجلاً واحداً طلقت، فكذلك هذا الجمع في الملائكة والرسل. فالمعنى أن من عادى الله، أو ملكاً من ملائكته، أو رسولاً من رسله، فالله عدوّ له.
وقال الماتريدي: يحتمل أن يكون الافتتاح باسم الله، على سبيل التعظيم لمن ذكر بعده، كقوله تعالى: {فأَن لله خمسهُ} وخص جبريل وميكال بالذكر تشريفاً لهما وتفضيلاً. وقد ذكرنا عن أستاذنا أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير، قدس الله روحه، أنه كان يسمي لنا هذا النوع بالتجريد، وهو أن يكون الشيء مندرجاً تحت عموم، ثم تفرده بالذكر، وذلك لمعنى مختص به دون أفراد ذلك العام. فجبريل وميكال جعلاً كأنهما من جنس آخر، ونزل التغاير في الوصف كالتغاير في الجنس، فعطف. وهذا النوع من العطف، أعني عطف الخاص على العام، على سبيل التفضيل، هو من الأحكام التي انفردت بها الواو، فلا يجوز ذلك في غيرها من حروف العطف. وقيل: خصا بالذكر، لأن اليهود ذكرهما، ونزلت الآية بسببهما. فلو لم يذكرا، لكان لليهود تعلق بأن يقولوا: لم نعاد الله؟ ولا جميع ملائكته؟ وقيل: خصاً بالذكر دفعاً لإشكال: أن الموجب للكفر عداوة جميع الملائكة، لا واحد منهم.
فكأنه قيل: أو واحد منهم. وجاء هذا الترتيب في غاية الحسن، فابتدئ بذكر الله، ثم بذكر الوسائط التي بينه وبين الرسل، ثم بذكر الوسائط التي بين الملائكة وبين المرسل إليهم. فهذا ترتيب بحسب الوحي. ولا يدل تقديم الملائكة في الذكر على تفضيلهم على رسل بني آدم، لأن الترتيب الذي ذكرناه هو ترتيب بالنسبة إلى الوسائط، لا بالنسبة إلى التفضيل. ويأتي قول الزمخشري: بأن الملائكة أشرف من الأنبياء، إن شاء الله، قالوا: واختصاص جبريل وميكال بالذكر يدل على كونهما أشرف من جميع الملائكة. وقالوا: جبريل أفضل من ميكال، لأنه قدم في الذكر، ولأنه ينزل بالوحي والعلم، وهو مادة الأرواح. وميكال ينزل بالخصب والأمطار، وهي مادة الأبدان، وغذاء الأرواح أشرف من غذاء الأشباح، انتهى. ويحتاج تفضيل جبريل على ميكائيل إلى نص جلي واضح، والتقدم في الذكر لا يدل على التفضيل، إذ يحتمل أن يكون ذلك من باب الترقي. ومن: في قوله: {من كان عدوًّا} شرطية. واختلف في الجواب فقيل: هو محذوف، تقديره: فهو كافر، وحذف لدلالة المعنى عليه. وقيل الجواب: {فإن الله عدوّ للكافرين}، وأتى باسم الله ظاهراً، ولم يأت بأنه عدوّ لاحتمال أن يفهم أن الضمير عائد على اسم الشرط فينقلب المعنى، أو عائد على أقرب مذكور، وهو ميكال، فأظهر الاسم لزوال اللبس، أو للتعظيم والتفخيم، لأن العرب إذا فخمت شيئاً كررته بالاسم الذي تقدم له منه: {لينصرنه الله} {إن الله لقوي عزيز} وقول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيئا ***
وهذه الجملة الواقعة خبراً للشرط، تحتاج إلى رابط لجملة الجزاء باسم الشرط. والرابط هنا الاسم الظاهر وهو: الكافرين، أوقع الظاهر موقع الضمير لتواخي أواخر الآي، ولينص على علة العداوة، وهي الكفر، إذ من عادى من تقدّم ذكره، أو واحداً منهم، فهو كافر. أو يراد بالكافرين العموم، فيكون الرابط العموم، إذ الكفر يكون بأنواع، وهؤلاء الكفار بهذا الشيء الخاص فرد من أفراد العموم، فيحصل الربط بذلك. وقال الزمخشري: عدوّ للكافرين، أراد عدوّ لهم، فجاء بالظاهر ليدل على أن الله عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر. وإذا كانت عداوة الأنبياء كفراً، فما بال الملائكة؟ وهم أشرف. والمعنى: من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشدّ العقاب. انتهى كلامه. وهذا مذهب المعتزلة يذهبون إلى أن الملائكة أفضل من خواص بني آدم. ودل كلام الزمخشري على أن الظاهر وقع موقع الضمير، وأنه لم يلحظ فيه العموم، وقال ابن عطية: وجاءت العبارة بعموم الكافرين، لأن عود الضمير على من يشكل، سواء أفردته أو جمعته، ولو لم يبال بالإشكال. وقلنا: المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم. ويحتمل أن الله قد علم أن بعضهم يؤمن، فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله للمآل.
وروي أن عمر نطق بهذه الآية مجاوباً لبعض اليهود في قوله: ذلك عدوّنا، يعني جبريل، فنزلت على لسان عمر. قال ابن عطية: وهذا الخبر ضعيف.
{ولقد أنزلنا آيات بينات}: سبب نزولها، فيما ذكر الطبراني، أن ابن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما جئت بآية بينة، فنزلت. وقال الزمخشري: قال ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها، فنزلت انتهى. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه لما ذكر تعالى جملاً من قبائح اليهود وذمهم على ذلك، وكان فيما ذكر من ذلك معاداتهم لجبريل، فناسب ذلك إنكارهم لما نزل به جبريل، فأخبر الله تعالى بأن الرسول عليه السلام أنزل عليه آيات بينات، وأنه لا يجحد نزولها إلا كل فاسق، وذلك لوضوحها. والآيات البينات، أي القرآن، أو المعجزات المقرونة بالتحدّي، أو الإخبار عما خفي وأخفي في الكتب السالفة، أو الشرائع، أو الفرائض، أو مجموع كل ما تقدّم، أقوال خمسة. والظاهر مطلق ما يدل عليه آيات بينات غير معين شيء منها، وعبر عن وصولها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنزال، لأن ذلك كان من علوّ إلى ما دونه.
{وما يكفر بها إلا الفاسقون}: المراد بالفاسقين هنا: الكافرون، لأن كفر آيات الله تعالى هو من باب فسق العقائد، فليس من باب فسق الأفعال. وقال الحسن: إذا استعمل الفسق في شيء من المعاصي، وقع على أعظمه من كفر أو غيره. انتهى. وناسب قوله: بينات لفظ الكفر، وهو التغطية، لأن البين لا يقع فيه إلباس، فعدم الإيمان به ليس لشبهة لأنه بين، وإنما هو تغطية وستر لما هو واضح بين. وستر الواضح لا يقع إلا من متمرد في فسقه، والألف واللام في الفاسقون، إما للجنس، وإما للعهد، لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود. وكنى بالفسق هنا عن الكفر، لأن الفسق: خروج الإنسان عما حدّ له. وقد تقدّم قول الحسن أنه يدل على أعظم ما يطلق عليه، فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا المبالغ في كفره، المنتهي فيه إلى أقصى غاية. وإلا الفاسقون: استثناء مفرغ، إذ تقديره: وما يكفر بها أحد، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد. ثم استثنى الفساق من أحد، وأنهم يكفرون بها. ويجوز في مذهب الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء، فأجاز: ما قام إلا زيداً، على مراعاة ذلك المحذوف، إذ لو كان لم يحذف، لجاز النصب، ولا يجيز ذلك البصريون.
{أوَ كلما عاهدوا عهداً}: نزلت في مالك بن الصيف، قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا ميثاق. وقيل في اليهود: عاهدوا على أنه إن خرج لنؤمنن به ولنكوننّ معه على مشركي العرب، فلما بعث كفروا به.
وقال عطاء: هي العهود بينه وبين اليهود نقضوها، كفعل قريظة والنضير. قال تعالى: {الذين عاهدت منهم ثم ينقضون} وقرأ الجمهور: أو كلما، بفتح الواو. واختلف في هذه الواو فقيل: هي زائدة، قاله الأخفش. وقيل: هي أو الساكنة الواو، وحركت بالفتح، وهي بمعنى بل، قاله الكسائي. وكلا القولين ضعيف. وقيل: واو العطف، وهو الصحيح. وقد تقدّم أن مذهب سيبويه والنحويين: أن الأصل تقديم هذه الواو، والفاء، وثم، على همزة الاستفهام، وإنما قدّمت الهمزة لأن لها صدر الكلام. وإن الزمخشري يذهب إلى أن ثم محذوفاً معطوفاً عليه، مقدّراً بين الهمزة وحرف العطف، ولذلك قدّره هنا أكفروا بالآيات البينات؟ {وكلما عاهدوا} وقد رجع الزمخشري عن اختياره إلى قول الجماعة. وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتابنا المسمى (بالتكميل لشرح التسهيل). والمراد بهذا الاستفهام: الإنكار، وإعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها، فصار ذلك عادة لهم وسجية. فينبغي أن لا يكترث بأمرهم، وأن لا يصعب ذلك، فهي تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كفروا بما أنزل عليه، لأن ما كان ديدناً للشخص وخلقاً، لا ينبغي أن يحتفل بأمره. وقرأ أبو السمال العدوي وغيره: أو كلما بسكون الواو، وخرّج ذلك الزمخشري على أن يكون للعطف على الفاسقين، وقدّره: وما يكفر بها إلا الذين فسقوا، أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة. وخرجه المهدوي وغيره على أن أو للخروج من كلام إلى غيره، بمنزلة أم المنقطعة، فكأنه قال: بل كلما عاهدوا عهداً، كقول الرجل للرجل، لأعاقبنك، فيقول له: أو يحسن الله رأيك، أي بل يحسن رأيك، وهذا التخريج هو على رأي الكوفيين، إذ يكون أو عندهم بمنزلة بل. وأنشدوا شاهداً على هذه الدعوى قول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها أو أنت في العين أملح
وقد جاء أو بمعنى الواو في قوله:
من بين ملجم مهره أو سافع ***
وقوله:
صدور رماح أشرعت أو سلاسل ***
يريد: وشافع وسلاسل.
وقد قيل في ذلك: في قوله خطيئة، أو إثماً، أن المعنى: وإثما فيحتمل أن تخرّج هذه القراءة الشاذة على أن تكون أو بمعنى الواو، كأنه قيل: وكلما عاهدوا عهداً. وقرأ الحسن وأبو رجاء: أو كلما عوهدوا على البناء للمفعول، وهي قراءة تخالف رسم المصحف. وانتصاب عهداً على أنه مصدر على غيرالصدر، أي معاهدة، أو على أنه مفعول على تضمين عاهد معنى: أعطى، أي أعطوا عهداً. وقرئ: عهدوا، فيكون عهداً مصدراً، وقد تقدم. ما المراد بالعهد في سبب النزول، فأغنى عن إعادته. {نبذه}: طرحه، أو نقضه، أو ترك العمل به، أو اعتزله، أو رماه. أقوال خمسة، وهي متقاربة المعنى. ونسبة النبذ إلى العهد مجاز، لأن العهد معنى، والنبذ حقيقة، إنما هو في المتجسدات: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم} {إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً} فنبذ خاتمه، فنبذ الناس خواتيمهم، {لنبذ بالعراء} {فريق منهم}: الفريق اسم جنس لا واحد له، يقع على القليل والكثير. وقرأ عبد الله: نقضه فريق منهم، وهي قراءة تخالف سواد المصحف، فالأولى حملها على التفسير.
{بل أكثرهم لا يؤمنون}: يحتمل أن

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12